موقع كيكا - الجمعة 30 ديسمبر 2005 محمد المزديوي عن عبد الإله الصالحي
"كلما لمستُ شيئا كسرتُهُ" أو شَعْرَنَة اليوميّ بإسراف
إلى الشاعر الرائع محمود عبد الغني
(في ذكرى حانة "تاهيتي" الرباطية الأسطورية)
 هل يمكن القول إن ديوان الشاعر عبد الإله الصالحي تأخر في الصدور؟ نعم، بلا شك. لأن الشاعر المغربي المقيم في باريس منذ أكثر من عشر سنوات يكتب منذ فترة طويلة، كما أنه ساهم في إصدار مجلة ثقافية حداثية ساهمت في رفد الثقافة المغربية الراكدة بالكثير من الأسئلة المُقلقة والمحرجة والمخلخلة. ونقصد بالطبع مجلة "إسراف" والتي كان لها الفضل في تشجيع الكتاب الشُبّاب على التمرد وعلى الصعود على الحلبة. توقفت المجلة، لصعوبات مادية، ولكن الشاعر لم يتوقف أبدا عن التفكير في موارد تأتي من مكان ما لإعادة هذه الحالة وتصحيح قِصرها وتصويب اعوجاجتها. في هذه السنة (2005) غَالَبَ الشاعرُ كسلَهُ وأصدر الديوان الأول عن دار نشر "توبقال" المغربية التي يُديرها الشاعر المغربي الكبير محمد بنيس. في مثل هذه الحالات دائما ما يُطرَحُ سؤال الإضافة التي يمكن لشاعر أن يقدمها في ديوان ما. والسؤال مشروعٌ ما دام أنّ الحركة الشعرية المغربيّة تعرفُ حركية لا يُستهانُ بها، وما دام أن الموضوع الشعري، خصوصا، لم يعد يَجدُ أي عائق من الانبلاج. لقد أصبحت القصيدة الشعرية المغربية تتمتع بأجواء من الحرية لا يحد منها إلا مَوانِع الشاعر الشخصية والرقابة الذاتية التي يمكن أن يمارسها على نفسه. في ديوانه الأول يكشف الشاعر والصحفي المغربي المقيم في باريس عبد الإله الصالحي، بكثير من القوة، عن انتمائه لجيل من الشعراء المغاربة الذين دفعوا بالقصيدة إلى مستوى من الذاتية لا نظير له، ونقصد بالخصوص الشاعر المغربي الرّاحل محمد خير الدين. ولن يذهب بنا العناء إلى مستوى بعيد، حيث أن الشاعر، يعلن ويدافع عن هذه الذاتية، باعتبار القصيدة كتابة فردية بامتياز، من العنوان الجميل "كلما لمستُ شيئا كسرتُهُ"(لقد ترك الناشرُ الماكرُ العنوان من دون تشكيل، ومن هنا تجوز قراءته أيضا كلما لمستِ شيئا كسرتِهِ)، وهنا يمكن أن نَعتبرَ الديوانَ رسالةَ حبٍّ طويلة إلى امرأة طائشة. تأثير أو روافد أو تناص الشاعر محمد خير الدين ليست هي الوحيدة في الديوان، إذ أن الشاعر الصالحي يتمتع على خلاف الكثيرين من الشعراء المغاربة بإتقانه للغتين الفرنسية والإنجليزية(وهنا ينتظر قريبا صدور ديوانه باللغة الفرنسية، كما أنه شارك بقوة في مجلة التعامديين الفرنسية les perpendiculaires). الديوان يفتح باب الأسئلة على مصراعيه. ويعلن لنا الشاعر من البداية أن أسئلة اليوم ليست هي أسئلة الماضي. ومن الانتصارات الكبرى ولّى من دون رجعة. وليس من العيب أمام الشاعر أن يعلن، في قمةِ وفاءٍ لزمنه الشعري والحياتي السوسيولوجي، عن انكساراته وبلغة جميلة منسابة وشاعرية. أي أننا أمام شاعرية انكسار. انكسار وخيبات ولكنّنا أمام شاعرية أيضا. يعرف الشاعر الصالحي، وبفضل تواجده في الغرب (فرنسا، إذ هو صحفي في إذاعة راديو مونتي كارلو)، أن الزمن الحالي يسير بوتيرة تختلف في سرعته عن الزمن الماضي، وأن العَالَم أصبح الآن قرية كونية صغيرة. هذا الوعي الحاد جعله يُسابق نفسه، كما جعله يمنحنا قصيدة لا تختلف كثيرا عن قصيدة يكتبها أيّ شاعر آخر، غربيا كان أم عربيا. فما دام أنّ شاعرنا يعيش في بيئة كوسموبوليتية فليس من الغريب، بالمطلق، أن يكتب نصّاً يمكن لأي شاعر آخر، فرنسيا أو من أمريكا اللاتينية يعيش في الغرب، أن يعثر على أجزاء من حياته فيه. إن عبد الإله الصالحي بهذا يكتبنا نصَّنَا الشعري جميعا. 31 قصيدة تتوزع الديوان. وهي قصائد تتراوح ما بين الصفحة والواحدة وستة صفحات. وهي في مجملها تُقرَأُ بسهولة كبيرة، وكلّ واحدة منها تُعبّر عن حالة شعرية. اليومي يحضرُ بقوة في معظم القصائد. ولكن هذا اليومي لا يأتي بصفة مفضوحة ومكشوفة، بل إن الشاعر يقدمه لنا على طَبَق باذخ وموغل في الانسيابية. في قصيدة جميلة من الديوان تحمل عنوان "شكرا جزيلا جيل دولوز"(وقد أهداها إلى الكاتب والسوسيولوجي الجزائري قدّور زويلاي)، وهي ربما من أجمل قصائد الديوان، يستحضر الشاعر الفيلسوف الفرنسي الراحل الكبير "جيل دولوز"[ما أحْوَجَنَا إلى هذا المفكر الكبير في زمن ساركوزي وفيلكلكروت !] ليسائل الحياة اليومية والمعيش القاسي في أرض الغربة والمهجر. "كانوا يستشهدون بك/ويهمسون باسمك/ كنبيٍّ قادم من بعيد/ تصدح منه موسيقى لا يُشق لها غُبار. لم تكن فرنسيتي تسعفني حتى لشراء الخبز/لكن رنين اسمك/في المناقشات الجانبية كان له سحرٌ خاصّ/طالما أخجلني من فرط الجهل. الهجرة شيء مقدس، قلت ذات مرة./ لم يقلها أحد قبلك ةلم يجرؤ على ترديدها أحد بعدك. في هذه البلاد التي تزوجناها عن حب/أنا ومحمد وعبد القادر وفاطمة/وعرب آخرون تضيق بأسمائهم المغبّرة هذه القصيدة./حتى الآن لم أعثر على أحد يشرح لي طلاسم عبارتك المبهمة. /القوانين تقولُ العكس من حكومة لأخرى/ والبوّاب فرنسي من أصل برتغالي/ويحتقر الفلاسفة. خجلتُ مرة من جهلي العميق بك/وكرهت نفسي بعربية فصيحة/رغم تأفف صاحب الجريدة الزنجي./ الهجرة حقّ مقدسٌ/عبارةٌ يكفي أنها قيلتْ ذات يوم./لكي أستيقظ كل صباح/محتميا بك يا جيل دولوز.(20-21)" إن أجواء القصيدة كلها تمتح مواضيعها وأحداثها من اليومي والمعيش، كما سلف القول، ولكنه يوميّ ومعيشٌ يقبله الشاعر، ليس من دون عناء، ولكنه يتحايَلُ عليه، إذ أن زمن قلب كل شيء وإحداث ثورة عارمة انتهى. يبقى فقط التطويع، وتبقى فقط المُداراة. في قصيدة "أمنية"، وهي قصيدة قصيرة(صفحة واحدة) نقرأ: "أتمنى ألاّ تشبهني قصائدي أبدا/فأنا رجل عصبي لا صبر له/بطني متهدل/وأسناني الأمامية شديدة الصفرة/كما أنني نذلٌ/وتنقصني الكرامة."(24) أي واقعيّة أكثر من هذا. ورغم أن الوقائع مؤلمة فهو لم يتردد في التصريح بها. لقد ولى زمن الرومانسية والتجميل والتنميق الشعري. وأصبح الشاعر لا يتحرج في وصف قدره ومصيره. فما دام أن الجمهور أو القطيع لا دخل له ولا قدرة على التدخل فمن يستطيع أن يمنع الشاعر بالتغني بأشجانه. من هنا تستطيع قصيدة النثر أن تلتقط هذه التفاصيل، تفاصيل الحياة وتعبر عنها، جنبا إلى جنب مع الرواية. في قصيدة "أُبوّة"، وهي أقصرها جميعا، يكتب الشاعر عن ابنه الصغير، ما لن يستطيع الشاعر الكلاسيكي أن يقوله حتى وإن أحس به. "عندما وُلدتَ بكيتُ/خوفا عليكَ وعليّ/ويئستُ بحرقة. بلغتَ الآن ثمان سنوات/وكلما رأيتُكَ - مرة في الشّهر-/تجدد يأسي من الحياة."(25) إنه نص في غاية الشفافية والبوح. والاعتراف يذهب إلى أقصى مدى "تجدد يأسي من الحياة". في نص "مجرّد عابر" يدفع الصالحي بالقصيدة إلى مواقع متقدمة في إدانة الأوضاع الحياتية والاجتماعية. لا يكتفي بالوصف كمحايد، ولكنه يتأثر ويصرخُ، أو أنه يَصفُ ولكنه يجرح في وصفه. "في القطار السريع بين الرباط والدار البيضاء بكينا بحرقة/تبادلنا تهما خفيفة/وسمينا الإحباط مراكش. في الشوارع يتسيّد الزيف بِصيغ واثقة/ويلمع كلوحة إعلان مستوردة./تمسك الأمهات بتلابيب بناتهن بحزم مبالغ فيه/ويتفنن الشحاذون في العويل./ رجال المخابرات يجربون معجما جديدا."(44) القصائد كلها، في هذا الديوان، تضع اليد على الجرح، وتسائله. لا تتردد في الإعلان عن الخيبات كما أنها لا تبالغ في الأمل، إذْ أن الأمل الكاذب أخطر على النفس ويشي بالعمى. يعترف الشّاعر بأنه "كُلّما لَمَس شيئا كسره"، وهو باعترافه يُشرّع قراءة قصيدته على أنها لا تُنظّر ولا تتحذلق بقدر ما تعيش زمَنَها وتفعل فيه. القصائد عامرةٌ بالحياة، والحركة على أشدّها, في كل التقاطعات. والقارئ لا يمكن أن يمنع نفسه من معايشة أجوائها، وهي أجواءٌ غير بعيدة عن أجواء "لوليتا"، رائعة "نابوكوف". في مجتمع عربي إقطاعي وموغل في تديّن وثني وفي ظل غياب للديموقراطية، "عند مدخل الميناء اصطفّ الشحاذون ورجال الشرطة واللصوص حاملين الأعلام"(10) غياب يقتلع العين، لا يمكن للشاعر الحقيقي إلا أن يَجد خلاصَهُ، وهو خلاص مؤقت ولكن ضروري، في الانكباب على الآخر. والآخر في الديوان، يأخذ أشكالا رحيمة: الخمرة(النبيذ) والمرأة، أي الحبّ. "نتبادل العضّ كالمجانين في أقرب فندق/وكلما نظرتُ إليها بِوَلَع مُبالَغ فيه/تنفعلُ"(من قصيدة الحب 2003) الحب سنة 2006 (التي تفصلنا عنها ساعات قصار) لن يتغير. والإنسان الذي يعيش عزلته في باريس، يمكن له أن يجد حلاّ، وأي حل؟ "سبعمائة ألف امرأة وحيدة/يا رجلْ/وأنت تعذب نفسك أمام شاشة الكمبيوتر/منذ ساعتين/باحثا عن جملة مناسبة تعكس بؤس العيش بدون امرأة"(16) المرأة التي يبحث عنها الشّاعر هي امرأة من دون مساحيق، امرأة يمكن لأي شخص سويّ أن يُغرَم فيها (والشعراء هم الآن الكائنات السوية بامتياز، في زمن الحروب والانتصارات التافهة)، امرأة تأتي لتمنح الإنسان شيئا من الحنان وتمضي. "نحو معوقو هذه الحرب نتحسس نُدوبَنا ونحن نحتسي كؤوسا/ رخيصة مع عاهرات بدون أسماء في حانات مظلمة ونشفق على كل شاب يبزغ فجأة من أطراف المدن يمتطي قصيدة موهوبة ويدخل الجبهة أعزل"(18) مقطع من قصيدة "جبهة الحب"(المهداة إلى محمد المزديوي)، من أكثر المقاطع بهجة وتلخيصا واختصارا لحالة الشاعر: "الحروب الخاسرة" و"الندوب" والكؤوس الرخيصة" و"المومسات" و"الحانات المظلمة" و"أطراف المدن" و"قصائد موهوبة" و"جبهة" و"كائن أعزل"... الديوان احتفال "زوربوي" (نسبة إلى زوربا الإغريقي) بالحياة، في زمن كَثُر فيه مدَّاحُو الموت والخراب. لا يطلب الشاعر شيئا، وهو في الحقيقة لا يمد يده، يتمنى فقط. في قصيدة "قليل من الموهبة" يبدي حزنا على كائن تنقصهُ موهبةٌ ما، وهو ضائع في إحدى السوبرماركات: "(..) غير أن ما تبَقَّى لديه من الموهبة/لا يكفيه لرؤية الأرداف الرائعة/ لهذه الحسناء التي تنحني للإمساك/بإحدى السّلال"(70) الصالحي (لمّا يصِلْ بعدُ إلى الأربعين من عمره)، في هذا الديوان، صحبة شعراء شباب، من أمثال محمود عبد الغني وجلال الحكماوي وإدريس علوش وطه وعدنان وياسين وإدريس علوش وأزغاي، هم بصدد بناء القصيدة المغربية الجديدة، القصيدة التي لا تثير قطيعة مع ما سبق شعريا ولكنها، في نفس الوقت، لا تنسخه. لا يخفي الشاعر ارتياحه لصدور هذا الديوان، والارتياح مرده رغبته في الانتقال إلى أشياء أخرى (الديوان بالفرنسية وكتابة الرواية..). يبقى أن نشير أخيرا إلى أن أي قارئ لهذا الديوان لن يخرج، بالتأكيد، لا مباليا، وهذا لعمري جدوى الكتاب وجدوى القصيدة الحديثة... إنه ديوان للاستهلاك بـــ"إسراف" شديد.. A consommer sans modération aucune
عبد الإله الصالحي كلما لمست شيئا كسرته شعر دار توبقال/2005
|
|
|